عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 01-29-2017, 02:38 AM
الصورة الرمزية مصطفى طالب مصطفى
مصطفى طالب مصطفى مصطفى طالب مصطفى غير متواجد حالياً
الإدارة
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 1,072
مصطفى طالب مصطفى is on a distinguished road
افتراضي رد: تفريغ محاضرة "مركزية القرآن الكريم في السجال الفكري المعاصر" للشيخ عبد الله العجيري

¬ الخطوة الثالثة: الإفضاء إلى عوالم العلوم القرآنية:

بعد أن استطاع الإنسان أن ينفذ إلى بعض معاني كتاب ربه -تبارك وتعالى- عبر تفعيل أداة التساؤل بمعرفة معاني كلمات القرآن الكريم والجمل القرآنية، الآن يستطيع الإنسان أن يفضي بسؤالاته للتعرف على البلاغة في النص القرآني، ويفضي إلى معرفة جوابات سؤالاته الفكرية وغير ذلك.


لنأخذ بعض النماذج المتعلقة بفضاء العظمة القرآنية، بلاغة النص القرآني وغيرها من الفضاءات، ثم نفضي سريعًا إلى بعض ما يتعلَّق بتفعيل النص القرآني في مجال السِّجال الفكري المعاصر.


نأخذ المثال: عندما يقرأ العبد قول الله -تبارك وتعالى-: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾، أنا أزعم أننا لو عمِلنا أشبه باستفتاء عام: أكمل الآية القرآنية التالية: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ .. ﴾؟ أجزم أن 99% من المسلمين يكتبون فورًا كما هو متوقَّع: (الغفور الرحيم).


فحين قال: ﴿ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ يُفترض أن يتفجَّر في نفسك السؤال: لماذا قال العزيز الحكيم؟ ترجع إلى كتب التفسير فلا تجد جوابًا أو جوابين بل تجد جوابات ونقاشات ويتعمق معك في كتاب الله -عز وجل-.

أذكر مرة كنت في السوق متجوِّلًا مع الأهل، وبالنسبة إليَّ أعتبر أن من بلايا العصر والزمان الذهاب إلى السوق!، أنا يصيبني الملل الشديد جدًا جدًا من هذه القضية. وطبعًا من نعمة الله -عز وجل- علينا في هذا الزمان أن عندنا جوالات، ومعها اختراع جميل آخر يسمونه: (head phones) السماعات، فأضع السماعات وأجلس أستمع، فهناك انتفاع بحمد الله واستفادة من الوقت، وطبعًا يحصل إزعاج للأهل لأنهم يسألونني عن رأيي في شيء معين، فأقول انتظروا قليلًا، ثم نقوم بإغلاق الصوت، ثم أطلب منهم أن يُعيدوا السؤال وهكذا .
الشاهد، كنت مرة مع الأهل في السوق وأستمع لقراءة عذبة جميلة، بالنسبة لي من أجمل تلاوات الشيخ سعد الغامدي لسورة الزمر، وهي تلاوة قديمة وأظنها أوَّل تلاوة سجلت للشيخ، تلاوة حقيقة مؤثرة وجميلة جدًا[1]، في أثناء تلاوته لتلك السورة مرَّ على قوله -تبارك وتعالى- وتأملوا في الآية: ﴿ أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾، لا أخفيكم أنَّه لما قرأ هذه الآية أقفلت الجهاز مباشرة وبدأت بترداد هذه الآية، كنت أكررها متسائلًا؛ أن المعهود فطرة وبشريَّة أن الإنسان يتَّقي العذاب بيده، فالمعهود أن الإنسان يقي وجهه إذا قصد العذاب وجهه بيده، فيكون مستعدًا إذا جاء شخص ليضربه مثلًا أن يضحي بأي عضو من أعضائه في سبيل حفظ وجهه، يعني لو أُعطي إنسان على سبيل المثال سكينًا وقيل له اطعن يدك، فاستسهال طعن اليد أكثر بكثير مما لو قيل له: افقأ عينك، هناك فرق كبير جدًا.


الله -عز وجل- لم يقل: (أفمن يقي وجهه العذاب بيده) ولم يقل: (أفمن يتقي العذاب بيده) مثلًا، بل قال: ﴿أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾، فوقع في نفسي معنى لهذه الآية، ولكن أحببت أن أتوثق منه، وبحمد الله من نعم الله -عز وجل- أن كتب التفسير موفَّرة حتى داخل هذه الأجهزة، عندي (الموسوعة الشاملة الكتبية) ومن ضمنها تفسير (التحرير والتنوير) للطاهر بن عاشور[2]، وأظنه من التفاسير التي يتفاخر بها أهل القرن الحالي، ففتحت التفسير ووقفت على كلام عذب جميل للطاهر بن عاشور، ومؤثر إيمانيًا، خلاصته: أن هذا العبد الكافر في النار لو كان عنده وقاية من النار لاتَّقى العذاب بتلك الوقاية، فلما لم يجد تلك الوقاية اضطر أن يتَّقي العذاب بوجهه.


لما يستحضر الإنسان هذا المعنى سيدرك الآن أحد صور العذاب المرعبة الموجودة في النص القرآني والتي تحمل الإنسان على الانكفاء عن الذنوب والمعاصي استحضارًا لهذا المشهد الرهيب المهيب.


مثلًا حين يقول الله -عز وجل-: ﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ﴾، أو مثلًا يقول: ﴿ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾، المفروض في لغتنا الدَّارجة أن يقول: (يشرب منها)، ويقول: (سأل سائل عن عذاب واقع)، فالتركيب غريب ﴿ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ﴾، فبمجرَّد أن يصادف الإنسان مثل هذا التركيب الغريب المفروض أن يدور بنفسه: ما معنى هذا؟ لماذا اختار الله -عز وجل- أن يعبّر بهذا؟ هل هو تعبير كان يستخدم سابقًا؟ أم أن هناك أمرًا آخر؟


لما ترجع لكتب التفسير ستجد أن أحد الحقائق التي تحدَّث عنها علماء التفسير أن حروف الجر لما تتناوب يتم تضمين حرف الجر الـمُظهَر معنى كلامٍ مُضمَر؛ الله -عز وجل- ليس من غرضه أن يبيّن للعباد في الدنيا أن موضع إنعامه وإكرامه لأهل الجنة أن يجعلهم يشربون من عين، هذه القضية ليس فيها شيء كثير، لكن الله يريد أن يبيّن لعباده أنهم يشربون منها فيرتوون بها، فلما يقول الله -عز وجل-: ﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ﴾ المقصود بهذا الكلام الكشف عن معنى الشرب والارتواء، يشربون منها فيروَوْن بها.


لما يقول الله -عز وجل-: ﴿ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ﴾، الآن من هو هذا السائل؟ من الذي طرح هذا السؤال؟ كفار قريش، طيب طرح كفار قريش هذا السؤال على النبي ﷺ هل سؤال الجاد المستفسر المستعلم الذي يريد لأن يعرف تفاصيل هذا العذاب الواقع؟ لا؛ سؤالهم كان على سبيل السخرية والاستهزاء والتكذيب، ولذا الله -عز وجل- يريد تبيين هذا المعنى، كأنه يقول: (سأل سائل مكذّبًا بعذاب واقع)، فلاحظوا كيف أن حرف الجر يبيّن جزءًا من عظمة النص القرآني.


وكل إنسان استحضر هذه الأداة يجد أن الميزة التي تتشكَّل مع الوقت أن يتعمّق تدقيقه فيما يتعلَّق بالنص القرآني، خذ مثالًا في قول الله -عز وجل- في حق الوالدين: ﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا ﴾، ما هو وجه الإشكال الذي يُفترض أن يسأل عنه المرء؟



المفترض أن الله -عز وجل- حين ينهى عباده عن قولهم: (أف) للوالدين، فنحن نفهم أن ما هو أسوأ منها لا يصح بحق الوالدين، يعني لو قال الله -عز وجل- مثلًا: (فلا تقل لهما أف ولا تضربهما) تحس فعلًا أن هناك إشكال، في حين لو قال قائل: (لا تضرب والديك ولا تنهرهما ولا تقل لهما أف) هذا التسلسل يُعتبر تسلسلًا منطقيًا، فالمفترض حين يقرأ الإنسان: ﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ﴾ أن يقول العبد: يا رب إذا حرّمت علينا (أف) فنعرف أنه يحرُم علينا النَّهْر، فلماذا عقَّبت بهذا التعقيب؟


فلو ترجع لكتب التفسير تجد أقوالًا متعددة، وإحدى اللفتات الجميلة التي ذكرها صاحب (تسهيل علوم التنزيل)، قال: "لا تقل لهما أف لمصلحتك ولا تنهرهما لمصلحتهما"، يكون مثلًا الوالد أو الوالدة كبيرًا في السنة، تحتاج أن تذهب بهما للمستشفى أو لمصلحتهما وليس لمصلحتك، ومع ذلك يتضجَّر الوالدان ولا يريدان الذهاب للمستشفى، فُيذكّرك الله أنك حتى في هذه الحال، وحتى لو كان الأمر في مصلحة الوالدين لا تنهرهما، لا تتجاوز حدودك في الأمور اللفظية.


لاحظ الآن أنَّ الإنسان حين أدرك الإشكال وفتَّش في الكتب، تنبَّه إلى معنى من معاني بر الوالدين ما كان يستحضره فيما سبق.

- مداخلة أحد الإخوة (الصوت غير واضح)..


الشيخ:كما ذكرت وحاولت أن أؤكّد حتى يُزال هذا الإشكال؛ نحن لما نريد تفعيل هذه الأداة ليس القصد من هذه الأداة طرح الاعتراض على النص القرآني، يعني يُفترض أن الروح المضمنة داخل الإطار نفسه إشعار الطرف المقابل أنك بضوء عُجمة لسانك في هذا الزمان عاجز عن الإطلالة على عَظَمة النص القرآني، ويُفترض أن عندك نوعًا من أنواع التأسيس العقدي المسبَّق، يُفترض أن هذا الإنسان المقابل عنده خلفية عالية بدلائل نبوة النبي ﷺ، بمعجزة هذا النص القرآني، بالإيمان الوثيق بالله -تبارك وتعالى-، يجعلك حين تطرح التساؤل تكون مستحضرًا أنك تريد الإفضاء إلى عظيم النص القرآني في حالة من حالاته.


فهذه الروح المقصودة، وليس القصد من مجرد طرح التساؤل الطرح الحيادي أو الطرح التَّشكيكي، ولاحظوا معي أنه بحمد الله -تبارك وتعالى- لا يوجد سؤال يمكن أن يُستشكَل على النص القرآني إلا ويُفضي بك إلى إدراك عظمة النص القرآني!، لاحظوا من التجربة الآن ذكرتُ لكم بعض الأمثلة كتطبيقات وتلاحظون فعلًا أنه يتعمَّق نظر الإنسان فيما يتعلق بالنص القرآني، وأفضى إلى عالم عظيم مما يتعلق بهذا النص.


فبمجرد أن تثير سؤالًا، وما أكثر السؤالات، ستجد بحمد الله -تبارك وتعالى- حزمة من الجوابات الجيدة والمميزة والعظيمة من العلماء، لما يخطر في بالك وما لا يخطر في بالك، لأنهم مشتغلون بهذا الجانب وبشيء أبلغ.


وأنا أعتبر أن من عبقرية علماء المسلمين أنَّ عندهم قدرة مذهلة في توليد السؤالات وتوليد الاعتراضات، فيما قيل وفيما لم يقل.


من الأمثلة اللطيفة، من أعظم القصص القرآنية قصة يوسف -عليه السلام-، في ثناياها يقول الله -عز وجل- حكاية على لسان إخوة يوسف: ﴿ فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ﴾، لماذا اختار الله -عز وجل- هذه اللفظة؟


الآن الذئب حيوان مفترس، وعلاقة هذا الحيوان بالفريسة أن يقال: (فافترسه الذئب)، لكن لماذا قال الله -عز وجل-: ﴿ فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ﴾؟ وإخوة يوسف قد اختاروا هذه الكلمة مع سَبْق إصرار وترصُّد -كما يقال- لغرض؛ الآن لو قالوا: (افترسه) سيقول يعقوب -عليه السلام-: هاتوا ابني أدفنه، لكن هم أحبوا أن يُخفوا الجريمة بالكلية فقالوا: "الله المستعان أكله الذئب"!، أي أكله جميعه، لإخفاء الجريمة.


والمدلولات كثيرة، ومن الآيات المذهلة الموجودة في القرآن الكريم، والتي فعلًا تُفضي إلى إدراك عمق عبودية الدعاء لله -تبارك وتعالى-، قول الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية الجليلة العظيمة: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾، لنعقد مقارنة بين هذا السؤال القرآني والجواب الرباني، وبين جملة طويلة من السؤالات القرآنية وجواباتها، يقول الله -عز وجل- مثلًا:



v ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾.
v ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ .. ﴾ الآية.
v ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾.
v ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ﴾.
v ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ﴾.
v ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ﴾.
v ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾.
v ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾.
v ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾.
v ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ﴾.


لاحظوا أن ظاهرة السؤال وتقديم الجواب ظاهرة قرآنية موجودة.


الآية الوحيدة التي تختلف عن هذا النَّسَق بذكر السؤال وتقديم الجواب هي هذه الآية القرآنية العجيبة؛ يقول الله -عز وجل-: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾، ما مظهر الاختلاف ومدلولات الاختلاف الموجودة؟



أول ملاحظة: أن الله -عز وجل- ما قال : (فقل) يا محمد، بل تولَّى الله -عز وجل- تقديم الجواب بشكل مباشر: ﴿ فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾.


الملحظ الثاني: أن السؤال لم يُطرح أساسًا؛ فالعباد لم يسألوا محمدًا ﷺ: هل ربنا قريب أم بعيد؟ وإنما الله -عز وجل- من محبته -تبارك وتعالى- لافتقار عبده إليه ودعائه له أنه أثار السؤال في النفس: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ﴾، لم يقل : فأخبرهم يا محمد، بل قال: ﴿ فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ ﴾، حتى الجواب يتَّسم بالتعبير عن قرب الله من عباده.


لاحظوا الآن موقف الإنسان في إدراكه لمحبة الله -تبارك وتعالى- للدعاء، وإدراك العبد أن هذه المحبة تستوجب منه الإفضاء إليه بالدعاء، يجعل موقف الإنسان من ممارسة العبودية مختلفًا جدًا.


التمثيلات كثيرة، وليس الغرض الاسترسال بالحديث عنها، والقضية وما فيها أن الإنسان إذا مرَّ على قول الله



-عز وجل- : ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾، المفروض أن يتساءل: لماذا هذا التكرار؟ ولماذا حصل تكرار وتطابق في آيتين ثم اختلاف وتباين في آية دون أخرى؟


إذا أفضى الإنسان إلى كلام ابن القيم في (بدائع الفوائد) على سبيل المثال، سيجد تعليلًا حسنًا جميلًا بما يتعلق بمثل هذه الآية القرآنية.
أذكر أني لما كنت أقرأ مثلًا في سورة القيامة، تأملوا في قول الله -عز وجل-: ﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾، لاحظوا أن الحديث كله عن يوم القيامة، ﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾، كل الحديث المسترسِل يتعلَّق بحقيقة يوم القيامة.


ثم فجأة يتوقف النص القرآني ويقول: ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾، فأسلوب إقحام هذه الآيات القرآنية غريب.


والأعجب من ذلك أن الله -عز وجل- بعد ذلك يقول: ﴿ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾؛ بقية الآيات تتحدث عن يوم القيامة، فهذه الجملة المعترِضة ما هو موضوعها؟


عندما يرجع الإنسان إلى كتب التفسير سيُفضي إلى فهم تنزُّل مثل هذه الآيات القرآنية بحديث ابن عباس -رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي ﷺ حين كان يتلقَّى القرآن من جبريل -عليه السلام-، كان يخشى من تفلُّت القرآن، واستكشاف هذا يدل على قرب الله -تبارك وتعالى- من عبده، وقرب الوحي من عبده ونبيه ﷺ، وكأن الآيات تتنزل من الله -عز وجل- مباشرة على نبيه[3].


المشهد الذي كان يجري بكل بساطة أن جبريل -عليه السلام- كان يقول:﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ فالنبي ﷺ يقول: ﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾، ﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾، ﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾، وهكذا يقرأ النبي ﷺ، فلما استرسل النبي ﷺ بهذا الفعل خشية أن يتفلَّت القرآن، جاءت الآيات منبِّهة له. تمامًا كما يجري بين شخصين -كما يقال-، تخيل أني جالس أخاطب إنسانًا معينًا ثم سرح هذا الإنسان في خياله بعيدًا، ماذا أقول له؟ أقول: (يا أخي انتبه لي)، فهذه جملة معترضة، لا علاقة لها بالسياق السابق ولا بالضرورة في السياق اللاحق.


فالآن المدلول ليس كأنما جبريل هو الذي يخاطب النبي ﷺ وإنما هو مجرَّد وسيط عن الله -تبارك وتعالى-، الله يخاطب عبده محمدًا مباشرة، كأن الآيات نزلت مباشرة والنبي ﷺ يمارس هذا الفعل، فيقول الله -عز وجل- له: ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾، اطمئن سيُجمع هذا القرآن، وإذا قرأناه سيُجمع في صدرك فاطمئن لهذه القضية، الآن فترة الاستماع والإنصات لما يُلقى إليك.
ثم يتابع: ﴿ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ ﴾، كأن النبي ﷺ انسحب عن ممارسة هذا الفعل.


فضروري أن يدرك الإنسان هذه الحقيقة؛ أن أداة التساؤل -كما أعتقد- هي أداة إذا أحسن الإنسان توظيفها واستخدامها، تفتح له باب خير عظيم..


أنا لا أخفيكم أن العملية ليست بصعبة، كما ذكرت في بداية الموضوع أن أول محاولة لختمة تدبر كتاب الله -عز وجل- استرسلت في التلاوة، الآن لما آتي وأقول: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾، أنا أسمع على المنابر: "باسم الناس، باسمي وباسمكم"، لكن لا أعرف معنى كلمة (باسم)، لما يرجع الإنسان إلى كتب التفسير يدرك أن الباء من معناها الاستعانة، وتبدأ تتفكَّر: لماذا قال: بسم الله، وما قال: بالله، فتدرك معنى معينًا.


وقال: (الرحمن الرحيم)، الرحمن تدل على صفة الرحمة، والرحيم تدل على صفة الرحمة، فما هو الفارق الموضوعي بين اللفظين؟

[4]
ولاحظوا الفضاءات التي تتفتَّح للعبد بمجرد أنه أراد أن يتعلَّم حقيقة تفسير كتاب الله -عز وجل- ويمارس عبودية التدبر حقيقة.

---------------------------------
[1]لعلها هذه التلاوة: http://www.4shared.com/audio/kTTqSPa...-BY_Musle.html

[2] تفسير (التحرير والتنوير) على (المكتبة الشاملة): http://shamela.ws/browse.php/book-9776/page-2

[3] (عن سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴾ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُحَرِّكُهُمَا، وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾ قَالَ: جَمْعُهُ لَكَ فِي صَدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ، ﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾ قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا قَرَأَهُ). [البخاري/ 5].

[4]يمكن الرجوع لكتب د. فاضل السامرائي للتوسع في الجانبي البياني والبلاغي في القرآن، مثل كتاب: (لمسات بيانية في نصوص من التنزيل).


__________________
[align=center]

[/align]
رد مع اقتباس