¬ المستوى الثاني من التدبر: هو تدبر القرآن الكريم على مستوى الجملة القرآنية، على مستوى التركيب، على مستوى السِّياق..
أحيانًا تمر بآيات قرآنية هذه الآيات القرآنية على مستوى مفردات ألفاظها لا تمثّل مشكلة، لكن منطقة الإشكال الذي تمثله هي على مستوى التركيب، بعض الآيات القرآنية حين تتلوها يُفترض أن يتفجر في نفسك السؤال: ما الذي أراده الله -تبارك وتعالى- حين ساق هذا الكلام؟
ونذكر مثالًا عمليًا طريفًا، يدل على حالة التكاسل، ثم يتنبه الإنسان إلى ضرورة أن يتشجَّع ويتجاسر أن يتقحّم لمعرفة كلام ربه -تبارك وتعالى-، فينبغي أن يمارس هذا الدور..
من طفولتي حين كنت أقرأ القرآن الكريم كانت تعرض لي آية معينة فكنت أستشكل معناها ولا أعرفه، فكانت تسبب لي إشكالًا ومع ذلك كان الإنسان يتجاوزها عجلًا، يقول الله -عز وجل-: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾؛ أين موطن الإشكال في هذه الآية القرآنية؟
موطن الإشكال الذي كان يتفجَّر في نفسي حين أقرأ قول الله -عز وجل-: ﴿ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾، (لم يتسنَّه) أي لم يتغيَّر، الله -عز وجل- يحكي قصة وهذه القصة تُنسب لعُزير أنه مرَّ على قرية فوجدها ميتة خاوية على عروشها، فتعجَّب من عظيم قدرة الله -عز وجل- فقال: ﴿ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾؟!
فالله -عز وجل- يريد أن يبيّن لعبده عزير أنه قادر على ذلك وأنه قادر على ما هو أبلغ منه، ﴿ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ﴾، قال له: كم لبثت؟ فقال الرجل: لبثت يومًا أو بعض يوم، والإنسان النائم يدرك هذه الإشكالية، يعني أحيانًا تنام وحين تستيقظ لا تستطيع أن تدرك الفاصل الزمني وتقدّر الأزمان المتعلّقة بحالة النوم، فقال: ﴿ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾.
الله -عز وجل- يريد أن يُبيِن لعبده أن حقيقة الأمر أنه لم يلبث يومًا أو بعض يوم، قال له: ﴿ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ ﴾، تريد دليلًا على أنك لبثت مائة عام؟ ﴿ فَانْظُرْ ﴾؛ والفاء كما يقول العلماء أنها تتضمن معنى التعليل، ﴿ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾، طيب الآن عدم تغير الطعام والشراب هل يدل على أن عزيرًا لبث مائة عام أم لبث يومًا أو بعض يوم؟ يومًا أو بعض يوم؛ يعني المفروض العزير لما ينظر إلى هذا يقول: يا رب هذا يؤكد كلامي!.
فلا أخفيكم أني كنت أستشكل هذا، لكن سبحان الله كنت على العادة الجارية، أن يقرأ الإنسان ويمضي. بعد ذلك لما أراد الإنسان أن يمارس فعلًا هذه العبودية سوف يتوقَّف عند هذه القضية، ويحاول أن يفتّش في كتب التفسير عن حلّ لهذه الإشكالية.
مما وقفت عليه من الأشياء الطريفة؛ الإمام محمد بن علي الشوكاني عنده (مجموعة الأعمال الكاملة) طُبعت حديثًا بحمد الله -عز وجل-، من ضمنها رسالة خصَّصها لتفسير هذه الآية القرآنية وذكر في أثنائها أن هذه الآية أَشْكَل آية قرآنية موجودة عند المفسرين، فقلت الحمد لله يعني من طفولتي الاستشكال الذي عندي وارد على ألسنة أهل العلم، وبحمد الله وعبر التجربة لم يطرأ لي سؤال يتعلق بالنص القرآني إلا وجدت إجابته في كتب التفسير، فما استطعت بحمد الله أن أبتكر شيئًا معينًا لم يقف عليه أحد.
لما رجعت إلى كتب التفسير ذكروا جملة من المعاني، من المعاني اللطيفة التي ذكروها ربط مدول هذه الآية القرآنية بآية قرآنية أخرى تكشف عن شيء من المقصود، وهي قصة موسى -عليه الصلاة والسلام- حين كان في محادثة ربه -تبارك وتعالى- في الطور، يقول الله -عز وجل- مخاطبًا موسى: ﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ﴾، طيب هذا السؤال الرباني لموسى -عليه الصلاة والسلام- هل باعثه وغرضه استكشاف ما بيد موسى؟ أن الله لا يعلم ما بيد موسى؟ قطعًا أن الله -عز وجل- من كمال علمه يدرك ما بيد موسى أكثر من إدراك موسى لهذه القضية.
فقال موسى -عليه الصلاة والسلام-: ﴿ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى ﴾، فالعلماء تحدَّثوا عن الحكمة الإلهية من سؤال موسى هذا السؤال، فبعض العلماء تعدَّدت جواباتهم، وبعض الجوابات لطيفة، لكنها لا تبدو أنها هي المكافئة للمقصود، وبعضها إجابات تبدو أقرب للتعبير عن حقيقة ما جرى.
فبعض الإجابات اللطيفة والتي تدل فعلًا على أنه حصل جزء من الغرض بهذه القضية أن الله -عز وجل- قصد بذلك الإيناس؛ أن هناك حدثًا عظيمًا بمخاطبة الله -عز وجل- لعبد موسى -عليه الصلاة والسلام-، فأحب الرب أن يُؤنس عبده فيأخذه في قضية جانبية -كما يقال-، فقال: ﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ﴾، فتلقَّى موسى ذلك الإيناس الرباني وقال: ﴿ هِيَ عَصَايَ ﴾، ما هو الجواب المفترض من موسى -عليه الصلاة والسلام-؟ أن يقول: (هي عصا)، حتى قوله: (هي عصاي) فيه قدر زائد لأنه لم يُسأل عمَّن هو مالك تلك العصا.
فقال: ﴿ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى ﴾، فتخيلوا هذا المقام العجيب لهذا الرجل الذي يخاطب الله -عز وجل- فأحب أن يطوّل هذا الكلام والمخاطبة وما أحب أن ينتهي الموضوع سريعًا، هذا أحد الأوجه.
لكن الوجه الذي أعتقد أنه الأقرب لمكاشفة المقصود؛ أن الله -عز وجل- يريد أن يُقرِّر عبد موسى -عليه الصلاة والسلام- بأن التي في يده هي عصا، كما يقال: بكامل قواه العقلية، لماذا؟ لأنه بعد قليل سيقول له الله -تبارك وتعالى-: ألقِها، فإذا ألقاها ستتحول إلى ثعبان.
فالآن تخيلوا لو أن الله -عز وجل- قال له: ألقِها، فألقاها فتحوَّلت لثعبان أو حية، قد يتسرَّب إلى وهمه أن التي كانت في يده ابتداءً حية، ولكن الآن يسأله ما في يدك؟ فينظر إليها ويقول هي عصا، فيكشف الله -تبارك وتعالى- له عن كمال قدرته فيأمره أن يلقيها فتتحوَّل إلى حية، فيدرك عظيم قدرة الله -تبارك وتعالى-.
بعض العلماء يستلهم من هذا المعنى جوابًا فيما يتعلق بهذه القضية؛ أنه لم يكن مقصود الرب -تبارك وتعالى- مجرَّد بيان كمال قدرته على المستوى الذي يُجيب به مباشرة على سؤال عزير، بل يريد أن يكشف له عن قدرته الأعظم مما يتخيَّل؛ يقول له: ﴿ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾، ثم اقلب رأسك إلى الناحية الثانية وانظر إلى الحمار وقد تحلَّل وتغيَّر وأصبح عظامًا بالية.
والآن تخيلوا أيهما أبلغ في الكشف عن القدرة الإلهية؛ كون الطعام تغير أو تحجَّر أو تعفن، لأن أصلًا بقاء الطعام مائة عام سيفسد بالكلية، أيهما أبلغ أن يحصل تغير في الطعام وتغير في الحمار؟ أم أن الله -تبارك وتعالى- لم يحافظ على عزير فقط بل حافظ عليه وعلى طعامه؟! تريد أن تستدل على عظيم قدرة الله -عز وجل- فانظر إلى الحمار.
لاحظوا اللقطة أنه لما يقلّب النَّظر بين الطَّرفين يستكشف فعلًا أن الله -عز وجل- استطاع أن يحافظ على ما يتعجَّل إليه سريان الفساد، وحال الحمار في الطرف المقابل، فهذا يكشف عن المقصود.
كيف يتوصَّل الإنسان إلى عظيم المعاني المتعلقة بهذا؟
بات الإنسان يتصور قدرة الله -تبارك وتعالى- تصورًا مختلفًا عما أفضى إليه في الآية ابتداءً، صار لديه انطباع مختلف تمامًا، كيف تخلَّقت هذه الحالة؟ من خلال فرض أداة السؤال.
بعض الزملاء لما طرحت هذه الفكرة ابتداءً كانوا يستكشلون؛ يقولون: كيف يليق للإنسان أن يستشكل ويتساءل؟
والفكرة -حتى لا يُساء فهمها- ليس الغرض من السؤال هو معارضة النص القرآني، بل المقصود هو استكشاف عظمة النص القرآني، يعني باعث السؤال هو اعترافٌ بفقر العبد وعجزه أن يعرف عظمة هذا الكلام، فيريد أن يستكشف عبر أداة السؤال ما هو المعنى العظيم الذي جعله -عز وجل- في هذا النص.
وبالمناسبة هذه الممارسة موجودة عند السلف الصالح، سواء في زمن النبوة أو بعده، وخذ من الأمثلة الآيات المستشكِلة التي مارسها سلفنا الكرام، الإمام التابعي الجليل عروة بن الزبير -رضي الله تعالى عنه- يحاور خالته أم المؤمنين عائشة، فيقول لها مُستشكِلًا قول الله تعالى -وهو فعلًا يفرض إشكالًا-: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾، ما وجه الاستشكال في هذه الآية؟
ما حكم السعي بين الصفا والمروة؟ إما أنه واجب أو ركن، وإذا تخفَّفنا نقول أنه مستحب. ما مدلول الآية القرآنية على حكم السعي بين الصفا والمروة؟ ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾؛ قد يتوهَّم الإنسان أنه مباح، بل قد يتوهَّم أن تركه أولى؛ لأنه يقول: ﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ ﴾ كأنه يقول: المفترض ألَّا تسعى بين الصفا والمروة ولكن إن عزمت على السَّعي بين الصفا والمروة فلا جناح عليك. ممكن أن يتوَّهم إنسان هذا التوهم.
فعروة بن الزبير توهَّم هذا التوهم –رضي الله عنه وأرضاه-، قال: "ما أظن بمن ترك السعي بين الصفا والمروة بأسًا"، ولاحظوا أنه لم يبتدِر مواجهة الناس والفُتيا به، بل واضح أنه كان يستشكل هذا المعنى، فبسبب سطوة المنهج الفقهي الموجود لم يستطع أن يستخرج هذه القضية فأفضى بهذا الاستشكال إلى عائشة -رضي الله عنها-، قالت العالمة الصِّديقة بنت الصّديق: "بئسما قلت يا ابن أخي"؛ فالاستشكال وجيه لكن الاستنباط غير وجيه.
تحكي عائشة قصة نزول هذه الآية أن الأنصار في جاهليتهم كانوا يعظّمون صنمين: إيساف ونائلة، إيساف موجود على الصفا ونائلة موجود على المروة، فكان سعيهم بين الصفا والمروة في حقيقة الأمر تعظيمًا لإيساف ونائلة، فدخلوا في الإسلام، وحجُّوا مع النبي ﷺ فوقع في نفوسهم حرج كيف نفعل ما كنا نفعله في جاهليتنا؟
فأخبرهم الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ وليس من شعائر إيساف ونائلة، ﴿ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ ﴾ فلا ينبغي أن يقع في نفسه حرج من السَّعي بينهما لأنه يسعى بين شعائر الله -عز وجل-.
لاحظ أن سياق سبب النزول يكشف للإنسان مراد الله -عز وجل- ويحل الإشكال.
موطن الشاهد أن هذه الممارسة -ممارسة السؤال والاستشكال- هي ممارسة سلفية، بل ممارسة أرَّها بها النبي ﷺ كما في الحديث المشهور عن حفصة -رضي الله عنها وأرضاها- أن النبي ﷺ لما قال: "والله لا يلِجُ النار أحد بايع تحت الشجرة"، قالت -رضي الله عنها وأرضاها- : "أليس الله -عز وجل- يقول: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ﴾؟"، فقال ﷺ :"إنما ذلك المرور على الصراط"؛ فالآية لها صلة بالمرور على الصراط ولا صلة لها بقضية دخول النار ضرورة.
عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- لما سمعت قول النبي ﷺ : "من نُوقش الحساب عُذِّب"، فقالت عائشة -رضي الله عنها وأرضاها-: "أما يقول الله -تبارك وتعالى- : ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴾؟" فكيف الحساب اليسير وكل من نوقش الحساب عُذِّب؟ فقال: "إنما ذلك العرض"؛ فالمحاسبة المقصودة في الآية هي مجرد عرض صحائف الأعمال، فإذا عُرضت على العبد فقط وغفر الله -عز وجل- للعبد وتجاوز عنه وغفر له وستر عليه في الآخرة كما ستر عليه في الدنيا ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴾.
يقول النبي ﷺ : "من نوقش الحساب" يعني بدأت المجادلة والمسجالة والأخذ والرد، فمصيره أنه سوف يُعذَّب.
الشاهد أنه فعل يُفرض أن يكون طبيعيًا، ولا يستصحب الإنسان نوعًا من أنواع التَّخوُّف فضلًا عن التثاقل من ممارسة هذه العبودية؛ التساؤل طلبًا لمعرفة عظمة كلام الله -تبارك وتعالى-.
والآيات بالمناسبة متعدّدة وكثيرة جدًا، فقط أذكر نماذج دون تقديم الجوابات التفصيلية عليها:
يقول الله -تبارك وتعالى-: ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾، استيأس الرسل من ماذا؟ وهذا يجعل هناك نوعًا من الإشكال كيف ييأس الأنبياء والرسل من روح الله؟ هذا جزء من الإشكال.
لكن الإشكال الأكبر لاحظ في قوله -تبارك وتعالى-: ﴿ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ﴾، ما معنى أنهم (قد كُذِبُوا)؟ لو أنه قال: (كُذِّبوا) لفهمنا أن قومهم كذَّبوهم، ولكن ما الفرق بين القضيتين؟ هناك فرق بين الكذب والتكذيب.
﴿ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ﴾: مشتقّ من (الكذب)، طيب من الذي كذب عليهم؟ المفروض من فهم اللغة العربية أن يصل الإنسان إلى إشكال؛ هل يمكن أن يصل الأنبياء والرسل إلى حالة يتوهَّمون فيها أن الله -عز وجل- قد كذب عليهم؟! فهذا إشكال.
ولذا من الاشياء الطريفة، وهذه في كتب التفسير هناك جدال طويل حولها، أن عبد الله بن مسعود جاءه رجل يسأله عن هذه الآية فقال -والله أعلم بما كان يريده ابن مسعود-، قال: "هي التي تكره"، لكن الأظهر والله أعلم ذُكرت عدة أشياء، عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- لما عرضت عليها تأولتها بمعنى القراءة الأخرى: (وظنوا أنهم قد كُذِّبوا)، كجزء مما يتعلق بالحال.
وبعضهم قال أنه انتقال من الخطاب، أنَّ الذين ظنوا هم أتباع الرسل أنهم قد كُذبوا من قبل الرسل، فيدل على هذا المعنى، والشاهد هناك نقاش، وهذا موطن القضية، وليس الغرض الآن تفصيل الكلام حول كل آية، إنما مثال: كيف يستطيع الإنسان أن يدرك معاني كلام -عز وجل- وأن ينقل القرآن إلى لب ما يتعلق بمجال تأسيس وتأصيل الفكر العقدي؟
بالخطوة الأولى: بأن يتفهَّم كتاب الله -تبارك وتعالى-، والذي يُفضي بالعبد إلى ممارسة هذه القضية ممارسة السُّؤالات أثناء تلاوته له.
أذكر أننا كنا مجموعة من الزملاء كنا نتدارس في حلقة، وكان جزء من الحلقة تفسير، وأحد الزملاء -جزاه الله خيرًا- كان يقدّم لنا تفسيرًا ملخصًا، سبحان الله أثناء تلاوتنا للقرآن مررنا بسورة الجن، واحد من الإخوة رفع يده سائلًا -جزاه الله خيرًا- وفعلًا كلنا خطر ببالنا ذات الإشكال، يقول الله -تبارك وتعالى-: ﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ﴾، فالذي حصل أن الأخ رفع يده وطرح السؤال الآتي: هل يناسب أن تكون نعمة السُّقيا موضع ابتلاء وفتنة؟
يعني الله -عز وجل- يقول: ﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ﴾ ما معناها؟ دعنا نفسرها على المعنى الدَّارج؛ أي استقام الكفار على طريقة أهل الحق لأنعم الله -عز وجل- عليهم وكافأهم بسُقيا غدقًا. فهل يناسب بعدها أن يقول الله -عز وجل- : ﴿ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾؟ أي نجعل سقيا الماء -التي يُفترض أن تكون نعمة على اهتدائهم- فتنة وابتلاء، فإن هم أطاعوا بحمد الله -عز وجل-، وإلا ﴿ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ﴾؟
الآن تخيل لو قيل لك أن الله -عز وجل- سينعم عليك بنعمة مكافئة على إيمانك، فإن قصَّرت بواجب شكره فسوف يعذبك، فممكن أن يختار العبد فيقول: لا داعي للنعمة، نتجاوزها أفضل، كان المظنون أن الله -سبحانه وتعالى- لما أراد أن يرغّب عباده بالإيمان به قال: ﴿ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ﴾ لكن لما يقول بعدها: ﴿لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ﴾ الآن هذه ليست نعمة هي فتنة ابتلاء واختبار، قد يؤمن وقد لا يؤمن.
ولذلك لما يرجع الإنسان إلى كتب التفسير سيجد نقاشًا طويلًا، بل بعض العلماء قال: ﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ﴾ ليس طريقة أهل الحق بل طريقة ما هم عليه من الباطل، ﴿ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ فيكون المعنى مستقيمًا بخلاف التصوُّر الأوَّلي الذي قد يُتوَّهم.
ولاحظ كيف استطاع الإنسان أن يدخل إلى مثل هذه القضية؟ من خلال إعمال هذه الطريقة.
والتطبيقات والتمثيلات كثيرة، ليست قليلة، ولا أريد الاستطالة بذكرها..