لقد كانت قضية منهج تلقي المعتقدات الدينية والاستدلال عليها واضحة تماماً في دعوة الأنبياء والمرسلين, فالدين مبني أساساً على الإيمان بالغيب, وهذه القضية لا مجال فيها لأخذ العلم المفصَّل وتلقِّيه إلا عن الأنبياء والرسل, واعتماد ما يوحى إليهم من مرسلهم جلَّ وعلا, سواء كان ذلك في معرفة الله تعالى تفصيلاً, أو معرفة ما غاب عنا من حقائق الكون وسر وجود الإنسان, وما يتبع ذلك من مصيره بعد انقضاء الحياة الدنيوية, أو ما يجب على الإنسان أداؤه ليحقق حكمة وجوده فينال السعادة والرَّاحة والطمأنينة, أما العقل البشري الذي توهَّم الكفار استغناءهم به عن الوحي الإلهي فإنه يقف في مجال معرفة الغيب عند حدود المعرفة المجملة بأن لهذا الكون خالقاً, ولهذا الوجود حكمة, ولا يتجاوز ذلك إلى تفصيل معرفة هذا الخالق ولا إلى تفاصيل حكمة الوجود[1].
وقد تجلَّت قضية تحديد منهج تلقي العقائد الغيبية بجانبية في الرِّسالة الخاتمة بغاية من الصرامة, كما يظهر في التأكيدات القرآنية المتتابعة على وجوب الإيمان بالله ورسله وما جاء في الوحي الإلهي إليهم, والتحذير من الكذب على الله والافتراء على رسله والزيغ عن آياته.
كما في قوله تعالى: مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران : 179]
وقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً [النساء : 170-171]
وقوله: إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ [الزمر : 41]
كما جاء الذمّ لمن تفرقوا واختلفوا حول ما جاءت به الرسل, أو دانوا بغير ما أذن به الله وأوحاه, قال تعالى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ [الشورى : 13] إلى قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ [الشورى : 21]
----------------------
1 انظر: "الرد على المنطقيين" لشيخ الإسلام ابن تيمية صـ 473