بسم الله الرحمن الرحيم
#الدرس [5]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم بمنِّه وكرمه أن يجعلنا وإيَّاكم ممن إذا أُعطِيَ شكر، وإذا ابتُلِيَ صبر، وإذا أذنب استغفر، فإنَّ هذه الثلاث عنوان السعادة. اللهم آمين.
في هذا اللقاء وهو الدرس الخامس من دروس البناء العلمي، والتي تُقدَّم من خلال هذه الدورة العلمية نتحدث -بإذن الله عز وجل- عن موضوعٍ أعتقد أنَّ كلَّ مَن يروم طلب العلم الشرعي ويقصده لابُدَّ أن يقرأ في هذا الموضوع، ولابُدَّ أن يبني فيه نفسه بناءً علميًّا سليمًا صحيحًا.
لذلك وقبل أن نلج في موضوعنا "البناء العلمي" لا بد من مقدمات كما أسلفنا.
فالمسألة الأولى التي تحدثنا عنها: فضل العلم في القرآن.
والثانية: فضل العلم في السنة.
والثالثة: مُقارنات
المسألة الرابعة التي نتحدث عنها في هذا اللقاء: هي ثمرات الطلب
وهذه من الأمور المهمة، فأي أمرٍ تقصده لابُدَّ أن تكون له ثمرةٌ، وهذه الثَّمرة هي التي تُحفِّزك على الوصول إلى هذا الأمر، فالآن الذي يحرص على المال تجد أنَّه لا يكلُّ ولا يملُّ من طرق جميع الأبواب التي يُريدها؛ لأنَّ لديه ثمرةً وهي أن يصل إلى المال. كذلك طالب العلم إذا طلب العلم، فلطلبه للعلم ثمرات:
أول هذه الثِّمار: أنَّه طريقٌ يُوصِّل إلى تقوى الله -عز وجل- أسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم من المتقين.
فمن أعظم الأمور التي يصل إليها طالب العلم أن يصل إلى درجة التقوى، يقول بعضُ السَّلف: "والله لو علمتُ أنَّ الله تقبَّل مني حسنةً واحدةً لتمنيت بعدها الموت". قيل له: ولِمَ؟ قال: "لأنَّ الله قال: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27]، فإذا تقبَّل الله مني كنت من المتقين، فإذا كتبني الله من المتقين فكما قال رب العالمين: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا﴾ [النبأ: 31- 34]".
فهذا دليلٌ على أنَّ من أعظم ثمار طلب العلم: الوصول إلى تقوى الله، كيف يصل الإنسانُ إلى تقوى الله؟
إذا علم وعرف ربَّه حقَّ المعرفة، كيف يعرف الله؟
يعرفه بأمرين: يعرفه بآياته، ويعرفه بأسمائه وصفاته.
ولا يصل الإنسانُ إلى هذا إلا إذا طلب العلم الشرعي.
والتقوى كما أنَّها ثمرةٌ من ثمار العلم، فهي أيضًا طريقٌ من الطرق إلى العلم؛ لأنَّ الله قال: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ [البقرة: 282]، فإذا أُخِذَت الواو على أنَّها استئنافية يكون لها معنى، وإذا أُخِذَت على أنَّها عاطفة فيتمُّ هذا المعنى، وأنَّ من الطرق التي تُعين طالب العلم على الوصول إلى الغاية في العلم أن يكون من المتقين لله -سبحانه وتعالى.
أيضًا من ثمار الطلب: أن يصل العبدُ إلى الإمامة في الدين، فهل من العيب أن يكون الإنسانُ إمامًا في الدين؟ فالله -عز وجل- قال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24]، وقال أيضًا: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: 74]، فهذا من الأمر الحميد الذي يسعى إليه الإنسانُ، وهو أن يكون قُدوةً في الخير، وأن يكون مُعلِّمًا ومُرشدًا للناس فيما أمر الله -سبحانه وتعالى.
يقول -عز وجل: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]، ويقول -عز وجل: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11] .
وقد ذُكِرَ عن نافع بن عبد الحارث -وكان عمر بن الخطاب قد جعله واليًا على مكة- أنَّه لما وصل عمر إلى عُسْفَان خرج نافع بن عبد الحارث لاستقبال أمير المؤمنين، فقال عمر: مَن جعلت على أهل مكة أو أهل الوادي؟ قال: جعلتُ عليهم ابن أبزى. قال عمر: مَن ابن أبزى؟ قال: مولًى من موالينا. قال: تستعمل على الناس مولًى؟! قال: يا أمير المؤمنين، إنَّه حافظٌ لكتاب الله، عالمٌ بالفرائض. فقال عمر -رضي الله عنه وأرضاه: أَمَا إنَّ نبيكم -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ».
والإمام محمد بن عبد الرحمن الأوقص -رحمه الله تعالى- كان من الأئمَّة الذين اشتهروا بالقضاء، وكان دميمَ الخِلْقة، يُقال عنه أنَّ عنقه كان داخلًا في بدنه، وكان له زجَّان -أي أنَّ منكبيه كأنَّهما زجَّان وهي التي تكون في أسفل الرمح- حتى إنَّه كان يدعو في يومٍ من الأيام ويقول: اللَّهم أعتق رقبتي من النار. فالتفتت إليه امرأةٌ وقالت: يا بني؛ وأي رقبةٍ لك!
فقالت له أمه: "يا بني، إنَّك لا تكون في مجلسٍ إلا وتكون المَضْحُوك منه، المسخور به، فعليك بالعلم فاطلبه في مظانِّه".
فطلب العلم حتى أصبح من كبار القضاة، فكان الخصوم إذا قعدوا وجلسوا بين يديه إذا بهم يرتَعِدُون من الخوف منه -رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً.
يقول الشاعر:
النَّاسُ مِنْ جِهة التَّمثيل أَكْفَاءُ *** أَبُوهُمُ آدمُ والأمُّ حَوَّاءُ
فَإِن يكُن لهم في أصلهم نَسَبٌ *** يُفَاخِرُون به: فَالطِّينُ والمَاءُ
مَا الفَضْلُ إلا لأَهْل العلمِ إنَّهمُ *** عَلَى الهُدى لمَن استَهْدَى أَدِلَّاءُ
وَقَدْرُ كُلِّ امرئٍ مَا كَانَ يُحسِنهُ *** وَالجَاهِلُون لأَهْلِ العِلْمِ أَعْدَاءُ
فَفُز بعلمٍ تَعِشْ بِهِ أَبَدًا *** فالنَّاسُ مَوتَى وأَهْلُ العِلْمِ أَحْياءُ
أيضًا من فضائل ومن ثمار طلب العلم الشرعي: أنَّه يُنجي من الفتن، خاصَّة أننا نعيش في زمانٍ قد كثرت فيه الفتنُ، وكثر فيه الحديثُ، وكثر فيه الكلامُ، وقلَّ فيه العملُ، وابتعد الناسُ عن كتاب الله، وسُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما الذي يُنجي الإنسان من هذه الفتن: فتن الشَّهوات والشُّبهات؟
يُنجيه أن يكون طالبًا للعلم، يعرف مراد الله ومراد رسوله -صلى الله عليه وسلم.
فلما خرج قارون على قومه في زينته قال عامَّة الناس: ﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [القصص: 79]، ماذا قال أهل العلم؟ ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [القصص: 80].
فالعلم يُنجي صاحبه من فتن الشَّهوات والشُّبهات.
أيضًا من ثماره: الحياة الطيبة. يقول ابن القيم: "العلم نورٌ في القلب، وحياةٌ في الروح يجدها الإنسانُ كلما أقبل على ربِّه -سبحانه وتعالى- والله -عز وجل- يقول في كتابه: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: 97]، وقال -عز وجل- في سورة الأنعام: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾ [الأنعام: 122]".
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم، وارعوا أسماعَكم لهذا الحديث العظيم: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، أَمْسَكَتِ المَاءَ؛ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ». فهي أرض طيبة قبِلَت الماءَ وأنبتت الزرع، «وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ المَاءَ؛ فَنَفَعَ اللهُ النَّاسَ بِهَا، فَسَقَوا وَشَرِبُوا». لكن الأرض ليست أرض زراعةٍ، ثم قال: «وَمِنْهَا قِيعَانٌ، لَا تَقْبَلُ مَاءًا، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ».
يقول ابنُ القيم -رحمه الله: "والعلماء على ثلاثة أنواعٍ:
· علماء يحفظون سُنَّة محمد -صلى الله عليه وسلم- ويحفظون كلام الله ويفهمونه". وذكر له مثالًا ابن عباس -رضي الله عنه.
· "وآخرون يحفظون العلمَ لكنَّهم لا يفقهون معناه، فهذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوعَى مِنْ سَامِعٍ».
· وآخرون هم الذين يُعرِضون عن كلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- فذلك قول الله -عز وجل: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾ [طه: 124- 126]".
أيضًا مما يقود إليه العلم: تحصيل اللَّذة:
أحيانًا يتوقع بعضُ الناس أنَّ اللَّذة يمكن أن يجدها الشخصُ في معصية الله -عز وجل- فيجدها في شرب خمر، أو يجدها في فعل الفواحش.
أقول: في هذا الدين لذَّةٌ لا تعدلها أيُّ لذَّةٍ، وهذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «ذَاقَ طَعْمُ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- نَبِيًّا». وقال: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ».
يقول الإمامُ الزَّرنُوجي -رحمه الله تعالى- في كتابه "أدب المتعلم": "مَن وجد لذَّة العلم قلَّما يرغب فيما عند الناس".
واقرؤوا حياةَ العلماء الذين وجدوا هذه اللَّذة؛ فستجدوا أنَّهم لا ينظرون إلى الآخرين لأنَّهم وجدوا مُتعةً وسعادةً لا يعلم بها إلا الله -عز وجل- ولا يصفها إلا مَن عاشها.
يقول الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله تعالى- وهو يُؤلِّف كتابه: "كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال، فأُسجلها في موضعها من الكتاب، فأبيت سهرانًا فَرَحًا مني بتلك الفائدة".
فتخيل أنَّه جاءك خبرٌ سعيدٌ في ليلةٍ من الليالي؛ فتقول: والله ما نمت من ماذا؟ من الفرح والسعادة، فيسهر الإنسانُ لأنَّه ينتشي، فإذا انتشى لا يكون للنوم مكانٌ لديه.
هذا الانتشاء وهذه السَّعادة عند هذا العالم حصَّلها حينما وجد فائدةً.
وحياة العلماء ممتلئة بالكثير من ذلك.
الثَّمرة الأخيرة -والثِّمار كثيرةٌ لكننا نختصر- الوصول إلى خشية الله -عز وجل- فالعلم -يا أحبتي- ليس بكثرة الرواية، وليس بكثرة التأليف، وليس بكثرة الكلام؛ وإنَّما العلم ما وقر في القلب وصدقه العمل.
لهذا يقول الله -عز وجل: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]، فإذا خشي العالم ربه -عز وجل- فإنَّ هذا العلم تكون له ثمرةٌ وأثرٌ كبيرٌ.
يقول بعضُ السلف: "ليس العلم بكثرة الرواية، وإنَّما العلم خشية الله -عز وجل".
ويقول بعضُهم: "العلم النافع هو ما وقر في القلب، أمَّا ما تلفَّظ به الإنسانُ فهو حجَّة الله -عز وجل- على بني آدم".
ولما كانت الخشيةُ طريقًا للعلم؛ كان بعضُ العلماء إذا رُؤيَ يُذكر الله -عز وجل- فيقولون: "إذا رأينا فلانًا أو تذكَّرناه ذكرنا الله -سبحانه وتعالى".
وكان يُقال عن الإمام ابن الشَّجري -رحمه الله تعالى: من خوفه من الله أنَّ مجالسه لم يكن فيها إلا أدب الدرس أو أدب النفس. فلا يوجد فيها شيءٌ من كلام الناس، فهو إمَّا فائدة تستفيد منها علمًا، وإمَّا أن تكون للإنسان فائدةٌ أخرى يكتسبها في نفسه.
المشاركة عبر الفيس بوك